خطا الدكتور كريغ فينتر رائد أبحاث الأطلس الوراثي (الجينوم) خطوة جديدة في أبحاثه لإنتاج حياة صناعية، وذلك بتركيبه، صناعيا، لكل الجينوم الحي الخاص بنوع من البكتيريا، ثم وضع كل تلك المادة الجينية داخل خلية حية لنوع آخر.
وأطلق فينتر على نتيجة عمله اسم «الخلية المركبة صناعيا»، مقدما نتائج أبحاثه على أنها علامة مهمة من الإنجازات التي ستؤدي إلى خلق العلماء لأنواع حية جديدة من الميكروبات المفيدة للبشرية من العدم! تقوم بإنتاج اللقاحات أو الوقود الحيوي.
ووصف فينتر الخلية الجديدة بأنها «أول نوع حي يتكاثر على كوكب الأرض.. والده الكومبيوتر»! وأضاف أن «هذا التقدم هو تقدم فلسفي بقدر ما هو تقدم تكنولوجي»، مفترضا أن هذه «الخلية المركبة صناعيا» ستطرح أسئلة جديدة حول طبيعة الحياة.
ويتفق علماء آخرون معه في أهمية هذا الإنجاز التكنولوجي للتركيب الصناعي لأكبر سلسلة من الحامض النووي المنقوص الأكسجين (دي إن إيه) الذي احتوى في هذه الحالة على مليون وحدة، وصنعه بدقة كبيرة للحلول محل الحمض النووي «دي إن إيه» للخلية نفسها.
إلا أن علماء آخرين لا يعتبرون هذا المنطلق واعدا، لأنه سيحتاج إلى سنين طويلة لتصميم أنواع حية جديدة، فيما يشهد العالم تقدما في إنتاج الوقود الحيوي مثلا بتقنيات الهندسة الوراثية التقليدية التي يتم بواسطتها إجراء تعديلات وراثية على عدد من الجينات كل مرة.
وقد حقق فينتر هدفه في التحكم الكامل بالجينوم الخاص بأحد أنواع البكتيريا، إذ قام أولا بتركيب الحمض النووي «دي إن إيه» لتلك البكتيريا في المختبر، ثم ثانيا بتصميم جينوم جديد لا يتمتع بالكثير من وظائفه الطبيعية، بل إنه يجهز بجينات جديدة يمكنها إنتاج مواد كيميائية مفيدة.
وقال جيرارد جويس الباحث في البيولوجيا في معهد سكريبس للأبحاث في لاهويا في كاليفورنيا إن «الأمر العظيم هنا هو في إمكانية إعادة تصميم كل الجينوم بكل جزء من أجزائه، لأن ذلك يعني أن بالإمكان إدخال مختلف أنواع الجينات» إليه.
أخلاقية الأبحاث
* وفي ردة فعل أولى للإعلان عن هذا الإنجاز العلمي، طلب الرئيس أوباما من لجنة أخلاقيات الأبحاث التابعة للبيت الأبيض الانتهاء من دراستها حول القضايا التي أثارتها أبحاث البيولوجيا المركبة صناعيا، خلال ستة أشهر، وتقديم نتائجها إليه مباشرة. وقال الرئيس إن هذا التقدم يثير «مخاوف حقيقية»، إلا أنه لم يحدد ماهية تلك المخاوف.
إنجازات متتالية
* وكان فينتر قد بدأ أولى خطواته لتحقيق هذا الهدف قبل ثلاث سنوات، عندما أظهر أنه يمكن أخذ الحمض النووي «دي إن إيه» الذي يحمل المادة الجينية من أحد أنواع البكتيريا، وزرعه في داخل نوع آخر من البكتيريا بحيث يهيمن عليها، ويتحكم بوظائفها. وتمكن فريقه البحثي العام الماضي من التركيب الصناعي لقطعة من «دي إن إيه» احتوت على مليون و80 ألفا من القواعد، وهي الوحدات الكيميائية التي يتكون منها الحمض النووي.
وفي الخطوة الجديدة الأخيرة، أعلن فريق يقوده دانيال غبسون وهاملتون سميث وفينتر مساء أول من أمس على صفحات مجلة «ساينس» العلمية أن الحمض النووي «دي إن إيه» المركب صناعيا يهيمن على خلية من البكتيريا ويتحكم فيها مثلما يتحكم بها الحمض النووي «دي إن إيه» الطبيعي، الأمر الذي يدفع الخلية إلى إنتاج البروتينات التي يرغب فيها هذا الحمض النووي الصناعي الجديد، بدلا من إنتاج تلك البروتينات التي يطلبها الحمض النووي الطبيعي.
وكان الفريق قد طلب 1000 جزء من الحمض النووي من شركة «بلو هيرون» المتخصصة في التركيب الصناعي للحمض النووي، ثم طور وسيلة لتركيب الجينوم الكامل. وبلغت تكلفة المشروع 40 مليون دولار تحملت الحصة الكبرى منها شركة «سنثيتك جينومكس» التي أسسها الدكتور فينتر.
طحالب لإنتاج الوقود
* إلا أن البكتيريا التي استخدمت في البحث لا تلائم إنتاج الوقود الحيوي ولذا فقد أعلن فينتر أنه سيتحول إلى تصنيع أشكال أخرى من الأنواع الحية الأخرى. وترتبط «سنثيتك جينومكس» مع شركة «إكسون» بعقد لإنتاج الوقود الحيوي من الطحالب. وقد أبدت «إكسون» استعدادها لإنفاق 600 مليون دولار إن تمكن فينتر من تقديم إنجازاته لها. وقد نقل عن فينتر قوله إنه سيحاول أن يصنع «أطلسا وراثيا كاملا للطحالب بحيث يمكنه تغيير 50 إلى 60 من مختلف العوامل المؤثرة على نمو الطحلب، بهدف التوصل إلى خلق طحالب ذات إنتاجية فائقة». ويقول إن هذه الجينات هي الموارد اللازمة لإجبار الطحالب على إنتاج مواد كيميائية مفيدة.
وخلال جولاته البحرية على متن يخته أخضع فينتر الكثير من الميكروبات البحرية الحية لتحاليل للحمض النووي لها، وقد جمع مكتبة تحتوي على نحو 40 مليون جين أغلبها من الطحالب.
تساؤلات علمية
* وقال بعض العلماء إن فينتر لم يحقق شيئا، فيما عدا إنجازه في تركيب قطعة كبيرة من الحمض النووي «دي إن إيه»، وإنه لم يحدث اختراقا عظيما. وقال ديفيد بالتيمور الباحث في علوم الجينات في معهد كاليفورنيا للتكنولوجيا: «في اعتقادي فإن فينتر قد بالغ نوعا ما في أهمية هذا (الإنجاز)». ووصف بالتيمور النتائج العلمية الجديدة بأنها «جولة في تكنولوجيا القوة»، أي إنها مسألة إنجاز بأبعاد ونطاقات كبرى، أكثر منها عملية اختراق علمي.
«إنه لم يخلق حياة بل خلق محاكاة لها»، قال بالتيمور. من جهته قال جورج تشيرتش الباحث في الجينوم في كلية الطب بجامعة هارفارد إن مقاربات الدكتور فينتر «ليست بالضرورة على الطريق» لإنتاج أنواع مجهرية حية مفيدة، بينما وصف ليروي هود الباحث في معهد المنظومات البيولوجية في سياتل تقرير الدكتور فينتر بأنه «براق»، وأكد ضرورة فهم الجينات الخاصة بالأنواع الحية البدائية، وشبكاتها، أولا، قبل التفكير بأهمية محاولات تصميم أنواع حية صناعية من العدم.
وكان إيكارد ويمر الباحث في جامعة الدولة في نيويورك في ستوني بروك قد ركب صناعيا عام 2002 الأطلس الوراثي لفيروس شلل الأطفال. ونجح ذلك الجينوم الصناعي في إصابة فئران بعدواه وأدى إلى هلاكها. ويتشابه عمل الدكتور فينتر الجديد على البكتيريا في المبدأ مع ذلك الإنجاز السابق، فيما عدا أن جينوم فيروس شلل الأطفال كان يحتوي على 7500 جزء، بينما يحتوي جينوم البكتيريا على 100 مرة أكثر.
أبحاث بلا ضوابط
* وأدانت منظمة «أصدقاء الأرض» البيئية الجينوم الصناعي باعتباره «تقنية جديدة خطيرة، وقالت إنه «يجب على فينتر التوقف عن كل أبحاثه المقبلة لحين وضع ضوابط ملائمة كافية».
وتجدر الإشارة إلى أن الجينوم الذي ركبه الدكتور فينتر صناعيا قد استنسخ من بكتيريا طبيعية تصيب قطعان الماعز. وقال فينتر إنه، وقبل استنساخه للحمض النووي «دي إن إيه»، استبعد 14 من جيناته التي يمكنها أن تتسبب في حدوث الأمراض، ولذلك فإن البكتيريا المركبة صناعيا آمنة، حتى ولو تسربت من المختبرات.
وقد أثار تأكيد فينتر على أنه خلق «خلية صناعية» مخاوف الكثير من الناس الذين يعتقون أنه خلق نوعا من الحياة الجديدة، أو خلية مركبة صناعيا. إلا أن الدكتور جويس من معهد سكريبس يقول إن «هذا بالطبع غير صحيح، إذ أن أجداد تلك الخلية هي من أشكال الحياة البيولوجية».
وتمكن فينتر من استنساخ الحمض النووي «دي إن إيه» من أحد أنواع البكتيريا ثم زرعه في بكتيريا حية أخرى. وقامت البكتيريا الأخيرة بإنتاج كل البروتينات في تلك «الخلية المركبة صناعيا» باتباعها للأوامر التي وجهتها الجينات في الحمض النووي الصناعي الجديد.
وقال جيم كولينز الباحث في الهندسة البيولوجية في جامعة بوسطن «إن ما يقلقني هو أن بعض الناس سيتوصلون إلى استنتاجات بأنهم خلقوا شكلا جديدا من أشكال الحياة». وأضاف « إلا أن ما خلقوه ليس سوى جسم حي يحتوي على جينوم طبيعي تم تركيبه صناعيا. وهذا لا يعتبر خلقا للحياة من العدم، أو خلقا لشكل جديد من أشكال الحياة»!
الخلية الحية المركبة صناعيا (إ. ب أ)
د. كريغ فينتر ود. هاملتون سميث اللذان شاركا في صنع الخلية الحية المركبة صناعيا (إ. ب أ)
منقووووووووووووووووووووووووووووووووووووووووووووووووووووووووووووووووووووووووووووووووووووول