سم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين! الرحمن الرحيم ديان يوم الدين, وصلاة على المبعوث رحمة للعالمين وتسليما لقوله المتين, ومغفرة ورضوان على من اقتدى بهدي النبيين إلى يوم الدين, ثم أما بعد:
حديثنا اليوم بإذن الله وعونه عن كلمة "العالمين", وهي كلمة دأب المسلمون على استعمالها منذ بداية البعثة المحمدية, ولا تزال ألسنة المسلمين تلهج بالكلمة, مرات كثيرة في اليوم والليلة!
وعلى الرغم من ذلك فإنهم لم يوفقوا إلى تحديد معناها, فلقد فهموها فهما غير صحيح, بحيث وسعوا مدلولها بشكل كبير جدا, فأدخلوا فيه ما ليس منه, ثم قابلتهم إشكاليات كبيرة بسبب تعميمهم هذا, ولكنهم تجاوزوها –كالعادة- بتخصيصات واجتهادات في مقابل النص.
ونبدأ في التعريف بما قاله المفسرون حول معنى هذه الكلمة, وكيف أن أقوالهم هذه تعارض آيات كثيرة في القرآن, تجاوزوها بغرابة شديدة عند تفسيرهم إياها!
وقد يعجب القارئ ويقول: أعجز أرباب الفصاحة والبيان وأهل اللسان عن تحديد معناها, وستفعل أنت!
نقول: كلمة "العالمين" من الكلمات الجديدة التي أنشأها الله تعالى إنشاء, فلم تأت في أي نص جاهلي قبل الإسلام, شعرا كان أو نثرا, فهي ليست مما يعرفه العرب, لذلك اجتهد الصحابة والتابعون في استخراج معناها من خلال القرآن, فالمسألة مسألة اجتهاد في الفهم وليس لها أي علاقة بالمكنة اللغوية, ثم إنهم وسعوا فقط مدلولها لا أنهم جعلوها شرقا وهي غرب!
اشتهر في تفسير "العالمين" أنها ما سوى الله تعالى, فكل ما في الكون هو من العالمين, وفي هذا قال الإمام الفخر الرازي في تفسيره عند تناوله لقوله تعالى: "الحمد لله رب العالمين":
"ثم إن "العالمين" عبارة عن كل موجود سوى الله تعالى، وهي على ثلاثة أقسام: المتحيزات، والمفارقات، والصفات. أما المتحيزات فهي إما بسائط أو مركبات، أو البسائط فهي الأفلاك والكواكب والأمهات، وأما المركبات فهي المواليد الثلاثة، (..........) ومعلوم أن البحث عن هذه الأقسام التي ذكرناها للمتحيزات مشتمل على ألوف ألوف من المسائل، بل الإنسان لو ترك الكل وأراد أن يحيط علمه بعجائب المعادن المتولدة في أرحام الجبال من الفلزات والأحجار الصافية وأنواع الكباريت والزرانيخ والأملاح، وأن يعرف عجائب أحوال النبات مع ما فيها من الأزهار والأنوار والثمار، وعجائب أقسام الحيوانات من البهائم والوحوش والطيور والحشرات لنفد عمره في أقل القليل من هذه المطالب، ولا ينتهي إلى غورها كما قال تعالى: {وَلَوْ أَنَّ مَّا فِى الأرض مِن شَجَرَةٍ أَقْلاَمٌ والبحر يَمُدُّهُ مِن بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَّا نَفِدَتْ كلمات الله} [ لقمان : 27 ] وهي بأسرها وأجمعها داخلة تحت قوله {رَبّ العالمين}" اهـ
ولقد فصل الإمام الطبري تفصيلا أفضل وقدم قولا أفضل مما قاله الإمام الفخر الرازي, فقال في تفسيره عند تناوله نفس الآية:
"القول في تأويل قوله: {الْعَالَمِينَ} .
قاله أبو جعفر: والعالَمون جمع عالَم، والعالَم: جمعٌ لا واحدَ له من لفظه، كالأنام والرهط والجيش، ونحو ذلك من الأسماء التي هي موضوعات على جِمَاعٍ لا واحد له من لفظه.
والعالم اسم لأصناف الأمم، وكل صنف منها عالَمٌ، وأهل كل قَرْن من كل صنف منها عالم ذلك القرن وذلك الزمان. فالإنس عالَم، وكل أهل زمان منهم عالمُ ذلك الزمان. والجنُّ عالم، وكذلك سائر أجناس الخلق، كلّ جنس منها عالمُ زمانه. ولذلك جُمع فقيل: عالمون، وواحده جمعٌ، لكون عالم كلّ زمان من ذلك عالم ذلك الزمان. ومن ذلك قول العجاج:
* فَخِنْدِفٌ هامَةُ هَذَا العَالَمِ *
فجعلهم عالمَ زمانه. وهذا القول الذي قلناه، قولُ ابن عباس وسعيد بن جبير، وهو معنى قول عامّة المفسرين." اهـ
ثم بدأ بعد ذلك في إيراد الروايات المتعلقة بمعنى اللفظة, فقالت بعضها أنها:
1- بمعنى الخلق كله (نفس ما قاله الرازي):
- حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا عثمان بن سعيد، قال: حدثنا بشر بن عُمارة، قال: حدثنا أبو رَوْق، عن الضحاك، عن ابن عباسالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ)، الحمد لله الذي له الخلق كله: السموات والأرضون ومَن فيهنّ، وما بينهن، مما يُعلم ولا يعلم.
2- الإنس والجن:
157 - وحدثني محمد بن سنان القَزَّاز، قال حدثنا أبو عاصم، عن شبيب، عن عكرمة، عن ابن عباسرب العالمين): الجن والإنس.
3- كل صنف عالم:
حدثنا بشر بن معاذ العَقَدي، قال: حدثنا يزيد بن زُرَيْع، عن سعيد، عن قتادةرَبِّ الْعَالَمِينَ) قال: كلّ صنف عالم.
حدثني أحمد بن حازم الغِفَاري، قال: حدثنا عُبيد الله بن موسى، عن أبي جعفر، عن ربيع بن أنس، عن أبي العالية، في قولهرَبِّ الْعَالَمِينَ)، قال: الإنس عالَمٌ، والجنّ عالم، وما سوى ذلك ثمانية عشر ألف عالم، أو أربعةَ عشر ألف عالم - هو يشكّ - من الملائكة على الأرض، وللأرض أربع زوايا، في كل زاوية ثلاثة آلافِ عالم وخمسمائة عالَمٍ، خلقهم لعبادته." اهـ
وهناك من قال أن المراد من ذلك الملائكة!
وعلى الرغم من ذلك اشتهر ما قاله الإمام الفخر الرازي أكثر مما قاله الإمام الطبري, وذلك لأن بعضهم عد هذا القول من تفسير القرآن بالقرآن, وذلك لما جاء في سورة الشعراء,فلما سأل فرعون: قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ [الشعراء : 23]
رد موسى: قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إن كُنتُم مُّوقِنِينَ [الشعراء : 24]
فيكون هذا تفصيلا لذاك!
وعلى قولهم هذا, فإن فرعون لم يكن فاهما هو الآخر لمعنى كلمة: عالمين, فاحتاج إلى شرح المعنى من موسى! ولو كان هذا هو المراد لكان من الأولى أن يقول له: وما العالمون؟! ولكنه يسأل عن هذا الرب الذي يدعوه موسى إلى عبادته, فزاده موسى تعريفا بكمالاته, فقال له هو كذا وكذا!
أي أنه يعطيه معلومات إضافية, لا أنه يفسر ما لديه! ولو طبقنا هذا الطريقة لأمكننا أن نقول أن العالمين هم موسى وهارون!
ألم يقل الله تعالى حاكيا قول السحرة: قَالُواْ آمَنَّا بِرِبِّ الْعَالَمِينَ [الأعراف : 121] ثم قالوا في الآية التالية: "رب موسى وهارون", فهل العالمون هم موسى وهارون؟ أم أن الحديث انتقل إلى أمر آخر, كما كان الحال بين موسى وفرعون؟
وهنا يحق لنا أن نسأل: هل ينطبق أيٌ من هذه المذكورات, مع الأوصاف التي ذكرها الله تعالى في القرآن؟!
لم ينطبق الوصف بحال, وسبب ذلك إشكاليات كبرى للمفسرين, من ذلك ما قاله الإمام الفخر الرازي عند تناوله لأول آية ذُكرت فيها الكلمة بعد الفاتحة, وهي قوله تعالى:
"يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُواْ نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ [البقرة : 47]"
فلقد افترض أنهم أفضل من كل الخلق حتى الملائكة! وقد يدخل فيهم الرسول! فقال محاولا تفادي هذه الإشكالية:
"أما قوله: { وأني فضلتكم على العالمين } ففيه سؤال وهو: أنه يلزم أن يكونوا أفضل من محمد عليه السلام وذلك باطل بالاتفاق. والجواب عنه من وجوه: أحدها: قال قوم : العالم عبارة عن الجمع الكثير من الناس, كقولك: رأيت عالماً من الناس، والمراد منه الكثير لا الكل، وهذا ضعيف لأن لفظ العالم مشتق من العلم وهو الدليل، فكل ما كان دليلاً على الله تعالى كان عالماً، فكان من العالم. وهذا تحقيق قول المتكلمين : العالم كل موجود سوى الله ، وعلى هذا لا يمكن تخصيص لفظ العالم ببعض المحدثات.
وثانيها: المراد فضلتكم على عالمي زمانكم وذلك لأن الشخص الذي سيوجد بعد ذلك وهو الآن ليس بموجود لم يكن ذلك الشخص من جملة العالمين حال عدمه لأن شرط العالم أن يكون موجوداً والشيء حال عدمه لا يكون موجوداً. فالشيء حال عدمه لا يكون من العالمين، وأن محمداً عليه السلام ما كان موجوداً في ذلك الوقت، فما كان ذلك الوقت من العالمين فلا يلزم من كون بني إسرائيل أفضل العالمين في ذلك الوقت كونهم أفضل من محمد صلى الله عليه وسلم في ذلك الوقت، وهذا هو الجواب أيضاً عن قوله تعالى: { إذ جعل فيكم أنبياء وجعلكم ملوكاً وآتاكم ما لم يؤت أحداً من العالمين } [ المائدة : 20 ] . وقال: { ولقد اخترناهم على علم على العالمين } [ الدخان : 32 ] وأراد به عالمي ذلك الزمان ، وإنما كانوا أفضل من غيرهم بما أعطوا من الملك والرسالة والكتب الإلهية. وثالثها: أن قوله: { وأني فضلتكم على العالمين } عام في العالمين لكنه مطلق في الفضل والمطلق يكفي في صدقه صورة واحدة. فالآية تدل على أن بني إسرائيل فضلوا على العالمين في أمر ما وهذا لا يقتضي أن يكونوا أفضل من كل العالمين في كل الأمور، بل لعلهم وإن كانوا أفضل من غيرهم في أمر واحد فغيرهم يكون أفضل منهم فيما عدا ذلك الأمر, وعند ذلك يظهر أنه لا يصح الاستدلال بقوله تعالى: { إن الله اصطفى آدم ونوحاً وآل إبراهيم ، وآل عمران على العالمين } [ آل عمران : 33 ] على أن الأنبياء أفضل من الملائكة." اهـ
وكما رأيت عزيزي القارئ فقد أوقعوا أنفسهم في إشكاليات بقولهم هذا, لن يجد القارئ أي أثر لها عند قولنا بقولنا.
أين الخطأ؟
لقد غفل السادة المفسرون عند تناولهم لهذه الكلمة غفلة بسيطة, أدت إلى هذا التوسع في المعنى, على الرغم من أن الأمر من أوضح ما يكون!!
لا جدال في معنى كلمة عالم, فهذا مما يعرفه القاصي والداني, ولكن السؤال هو: ما هو جمعه؟
إن هذه الكلمة تُجمع على "عوالم", فإذا جُمعت على هذا الوزن كانت بالمعنى الذي ذكره المفسرون, ولكن الله تعالى لم يجمعها على عوالم, وإنما جمعها على "عالمون"
وكما نرى فإن الكلمة مما انتهت بالواو والنون, وهما لا يكونان في الجمع إلا مع العاقل! فيكون هذا دليلا على أن الحديث عن عوالم عاقلة! وبهذا يمكننا استبعاد الجمادات والدواب وكل ما عدا العاقل!
ولقد اخرج ابن عباس رضي الله عنه كل ما عدا الإنس والجن بسبب آية الفرقان والتي سنعرض لها, فجعل العالمين هم الإنس والجن!
أما نحن فنقول:
العالمون هم الأمم أو الجماعات أو المجتمعات البشرية المختلفة.(في زمانٍ ما وليس مطلقا)وليس للكلمة أي علاقة بالجن ولا الملائكة ولا الجمادات ولا الحيوانات ولا أي شيء ما عدا الإنسان!
ونبين من أين أتينا بهذا التحديد, فنقول:
ذُكرت كلمة "العالمين" 61 مرة في القرآن, جاءت في بعضها عامة, مما لا يمكن من تحديد المدلول المندرج تحتها, ولكنها أتت مخصصة في بعض المرات بأوصاف تحتم أن تكون بالمعنى الذي ذكرنا, ونتناول هذه الآيات:
يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُواْ نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ [البقرة : 47]
أيهما أولى أن نفهم أن بني إسرائيل فُضلوا على باقي المجتمعات في زمانهم, وبهذا لا تظهر إشكالية في وجود بعض الفسقة فيهم, لأنه تفضيل مجتمع على مجتمعات, أم من الأولى أن تُفهم أن بني إسرائيل فضلوا على كل الخلق؟!
وَإِذْ قَالَتِ الْمَلاَئِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاء الْعَالَمِينَ [آل عمران : 42]
هنا نلاحظ أن العالمين لهم نساء! فهل لكل ما سوى الله نساء, أم أن النساء التي فُضلت مريم عليهن هن نساء المجتمعات البشرية في زمانها؟!
إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ [آل عمران : 96]
فِيهِ آيَاتٌ بَيِّـنَاتٌ مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِناً وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ [آل عمران : 97]
فالبيت وضع للناس وهو هداية لكل المجتمعات والأمم, أم أن البيت هداية للدواب والسماوات والأرض والدواب؟!
كما نلحظ في الآية التالية أن من يكفر فإن الله غني عن العالمين, فأي المعنين أنسب, المجتمعات والأمم أم الكون بما فيه؟!
نعم, الله غني عن كل شيء, ولكن ما من مخلوق يكفر ويجحد إلا الإنسان!
وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنبِيَاء وَجَعَلَكُم مُّلُوكاً وَآتَاكُم مَّا لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِّن الْعَالَمِينَ [المائدة : 20]
ونلحظ هنا استعمال "أحد" والتي لا تُستعمل في القرآن إلا مع العاقل, وبغض النظر عن هذا, فإن الآية تقول أن الله أعطى بني إسرائيل ما لم يؤت أحد من العالمين, -وهذا غير بعثة الأنبياء فيهم وجعلهم ملوكا, لعطف الإتيان على هذين الأمرين, والعطف يقتضي المغايرة-
فإذا قبل بعض الأخوة أن يُفضل بنو إسرائيل على الملائكة, فهل يُعقل أن يعطى بنو إسرائيل ما لم تُعطه الملائكة ولا الشياطين؟!
أما على فهمنا وقولنا فلا إشكال!
قَالَ اللّهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَن يَكْفُرْ بَعْدُ مِنكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَاباً لاَّ أُعَذِّبُهُ أَحَداً مِّنَ الْعَالَمِينَ [المائدة : 115]
العالمون يُعذبون, فهل يُعذب الجماد والنبات؟!
أُوْلَـئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ قُل لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ [الأنعام : 90]
وَمَا تَسْأَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ [يوسف : 104]
القرآن ذكرى وذكر للعالمين, فهل القرآن للجمادات والدواب, أم للجماعات والأمم المختلفة؟!
تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً [الفرقان : 1]
بهذه الآية استدل ابن عباس على أن المراد من العالمين هو الإنس والجن, لأن الرسول لم يكن إلا نذيرا لهما.
أما نحن فنقول أن المراد من العالمين هو المجتمعات البشرية فقط, ولا يدخل الجن فيها, لأن الجن والملائكة لا يسمون عالم, لأن العالم لا يكون إلا لمن له أثر ويُرى, وتذكر ما قاله الإمام الفخر الرازي:
"وهذا ضعيف لأن لفظ العالم مشتق من العلم وهو الدليل، فكل ما كان دليلاً على الله تعالى كان عالماً، فكان من العالم"
والعالم مشتق من العلم وهو ترك الأثر! ومن المعلوم أننا لا نرى لا الملائكة ولا الشياطين, ولا أثر مباشر لهم, لذا لا يُسمون عالم! فلا يدخلون في هذا المصطلح! كما أن الأوصاف المذكورة في حقهم تحتم أن يكونوا بشرا, مثل أن لهم نساء, ومثل الأوصاف القادمة.
وَلُوطاً إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُم بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِّن الْعَالَمِينَ [الأعراف : 80]
فهل كان لوط يحدثهم عن عدم فعل الحجر والطير أم البشر؟ وحتى لا يجادل بعضهم, نذكر له قوله تعالى:
أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ [الشعراء : 165]
فهذا دليل على أن المراد بالعالمين هم المجتمعات البشرية, ولقد الإمام الطبري عند تأويله هذه الآية:
"يعني بقوله أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ ) : أتنكحون الذكران من بني آدم في أدبارهم." اهـ
وكذلك استعملها قومه بنفس المعنى:
قَالُوا أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعَالَمِينَ [الحجر : 70]
فهم كانوا ينهونه عن مخاطبة أو التعامل مع الأجانب! والذين هم عالمون, لأنهم من مجتمعات أخرى!
وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِن رُّوحِنَا وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آيَةً لِّلْعَالَمِينَ [الأنبياء : 91]
فَأَنجَيْنَاهُ وَأَصْحَابَ السَّفِينَةِ وَجَعَلْنَاهَا آيَةً لِّلْعَالَمِينَ [العنكبوت : 15]
فهل جُعلت مريم وسيدنا عيسى آية لجماعات البشر المختلفة أم للجمادات والحيوانات معهم, وللملائكة الذين باشروا العملية؟!
وكذلك هل جُعلت السفينة آية للمخلوقات كلها أم للبشر؟!
وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ وَلَئِن جَاء نَصْرٌ مِّن رَّبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ أَوَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِمَا فِي صُدُورِ الْعَالَمِينَ [العنكبوت : 10]
العالمون لهم صدور, والله يعلم بما فيها, فعلى أي المعنيين تنطبق؟!
ونختم بقوله تعالى:
فَلِلَّهِ الْحَمْدُ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَرَبِّ الْأَرْضِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الجاثية : 36]
فالله رب السماوات والأرض وهو رب العالمين, وهذا يعني أن العالمين شيء آخر غير السماوات والأرض!
ولقد قال الإمام الطبري عند تناوله هذه الآية:
"الطبري: ( رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَرَبِّ الأرْضِ ) يقول: مالك السموات السبع، ومالك الأرضين السبع و( رَبِّ الْعَالَمِينَ ) يقول: مالك جميع ما فيهنّ من أصناف الخلق،" اهـ
أما نحن فنقول أنهم جماعات البشر فقط!
بهذا نكون قد بيّنا أن كلمة: عالمون, لا تستعمل إلا مع الأمم أو المجتمعات البشرية المختلفة, ولا تُستعمل مع غير هذا, لهذا خُتمت بالواو والنون, والله أعلى وأعلم.
والسلام عليكم ورحمة الله.